كان ماجد يود أن يسكن في فيلا بمساعدة والديه كأخيه ماهر ولكن ياسمين رفضت هذه الفكرة تماما وأخبرته أنهم يجب عليهم الاعتماد بأنفسهم وأن يكتفوا بمنزل صغير مليء بالحب وانهم ليسوا بحاجة لمكان كبير مثل هذا، اقتنع ماجد تماما برأيها، كم كان يريد أن يشعر بهذا الشعور، شعور الجهد والكد للحصول على احتياجاته، وكانوا يشتروا أثاث المنزل معا وبتناغم وتناسق، كم كان هذا من الصعب عليهم، فماجد دائما يميل إلى الأشياء باهظة الثمن وكثيرة الزخرفة والتكلف أما ياسمين فكانت تميل للأشياء البسيطة وغير مكلفة ولكن عملية وتتحمل وقت أطول ومريحة وليست للتباهي والمنظر فقط، حاول الأثنان احترام رغبة الأخر والتنازل بعض الشيء حتى يجدوا ما يحقق رغباتهم معا، بحثوا كثيرا ليجدو أثاث بسيط قليلا وبه زخارف قليلة حتى تعجب كل منهم، اكتمل شراء المنزل الصغير المكون من ثلاث غرف وصالون وحمام ومطبخ في منطقة راقية حتى لا ينفر منها ماجد وليست بالتكلف والمساحة الواسعة بدون حاجة حتى تميل إليها وتحبها ياسمين.
وجاء ميعاد الزفاف والذي انتظروه طيلة فترة الخطبة واختارت ياسمين الفستان دون أن يراه ماجد والغريب أنها اختارت فستان مليء بالزخرفة والتكلف الذي يحبه دائما ماجد ورغم أن هذا ليس أسلوبها عادةً ولكن بسبب الخلافات الكثيرة التي مروا بها بسبب أختلاف أزواقهم قررت أن يكون الفستان الذي لن يختاره ماجد معها على زوقه فقط وهي سترتاح عندما ترى في عيونه الفرحة بفستانها الذي على زوقه، وهذا ما فكر به أيضا ماجد قال لنفسه: أنا أعلم جيدا زوق ياسمين وسيكون شكلها غير متناسق إذا أرتدت فستان بسيط وأنا بدلة شكلها فخم كزوقي، وهي العروس ويجب أن تكون أفضل مني وينبهر بها الجميع؛ لذلك قرر ماجد اختيار بدلة بسيطة على زوق ياسمين.
وحينما ذهب ماجد ليرى حبيبته ياسمين من صالون السيدات وجدها في قمة الجمال وترتدي فستان على زوقه الخاص والذي يعجبه كثيرا وكأنه هو من أختاره ولم يبالي أنه أهمل زوقه في اختيار البدلة ولكن كل ما كان يهمه أن ياسمين جمالها أخاذ، فقط وبالقليل من أدوات التجميل أصبحت جميلة جدا، وسأل نفسه: لماذا كلما اقتربت منها أتعلق بها أكثر وأشعر وكأنها بها كل الصفات الجميلة؟ هل لأني عشقتها أم لأنها كلها صفات جميلة مخبئة كلما تعمقت بداخلها كلما وجدت ما يبهرك؟ وظل ينظر إليها نظرات جعلتها تشعر بسعادة كبيرة ولا تستطيع إخفاء إبتسامتها العريضة التي نصحتها والدتها أن تكون أكثر وقارا وابتسامتها يجب أن تكون بسيطة لأنها العروس والجميع سينظر إليها...
ذهب الاثنان إلى قاعة الأفراح وقد ملأت الفرحة قلبهما وعندما تم عقد قرانهما شعر وكأنه امتلك الدنيا وما فيها وهي وكأنها في حلم ولا تصدق ما هي به الآن وتذكرت كيف كانت تتمنى أقل مما هي به بكثييير، ولكن لا أحد مهما كان بسيط في شكله مثلها ومتواضع في الكثير من الأمور كان ينظر إليها أو ويفكر بها، وتذكرت كل العذاب والألم والحزن التي كانت تعانيه من وحدة، ولا تصدق أنها بعد كل هذه المعاناة وطول حرمانها قد جبرها الله حقا، لم تكن حتى في أحلامها وخيالها تحلم بما هي عليه...
بعد عقد القران همس في أذنها لقد أخترت هذه البدلة البسيطة لأني أعتقدت أن فستانك سيكون بسيط كزوقك ولكن الآن أشعر وكأنك أجمل مني وجمالك أخاذ وكأن الجميع يهمس كيف لهذه الفاتنة أن تتزوج هذا الشخص؟ ضحكت وقالت له: لقد فكرت أن أرتدي هذا الفستان على زوقك الخاص، لأنه أسعد يوم بحياتنا فأردت أن أكون تماما على زوقك يا حبيبي..
قال لها: يا ...ماذا؟ هل قلتِ يا حبيبي ام أني أحتاج لزيارة الطبيب؟ أخيرا خرجت من فمك...
قالت له: هذه ليست المرة الأولى لأخبرك بها فلقد قلتها لك ألف مرة ومرة، قلتها في نبرة صوتي وفي نظرة عيني وفي ابتسامة خفق لها قلبي حينما أراك وفي ... ثم قاطعها وقال: ما كل هذا الكلام الجميل، كيف كنت تخفين كل هذا الكلام؟
قالت له: كنت أنتظر الوقت المناسب لقوله، كنت أكتمه بداخلي حتى تراكم ثم أخبرك به بعد عقد قراننا..
قال لها: ألم أخبرك أنني كلما اقتربت منك أتعلق بك أكثر وأعشقك أكثر وأشعر بذوبان روحي في انفاسك، أنت حقا أفضل شيء حدث لي في حياتي.
عادوا منزلهم الصغير الدافيء بحب كل منهم ومع أول صلاة جماعة بينهم في منزلهم والدعاء بأن يبارك الله لهم زيجتهم...
كانت سها لا تتحمل كل ما حدث حتى أنها بدأت بتناول عقاقير مهدئة لأنها لا تستطيع التحمل أكثر وظلت تفكر أنه حان الوقت للتقرب إليها وأن تحاول التفريق بينهم بطريقة أخرى ولكن لا تعلم كيف ولكن متأكدة أنها إذا اقتربت منها ستعلم، بالفعل بدأت في التقرب منها وإخبرها أنها ستصطحبها إلى النادي لقضاء وقت ممتع معا، وقد حذرها ماجد من التقرب من سها فهي شخصية مدللة ولا تهتم بمشاعر أحد وأنه يخشى أن تجرحها أو تؤذيها، فأخبرته أنها تسلم أمرها لله دائما وتظل تذكر الله في كل شيء حتى ينجيها من أي شر، فاطمئن ماجد لهذا الكلام لأنه تعلم من ياسمين أن المرء لا حيلة له من النجاة من الأذى لا بالحذر ولا بأي شيء سوى باللجوء إلى قوة الله فالإنسان مهما بلغ من الذكاء والحكمة والسلطة لا يستطيع أن يحمي نفسه سوى بحول وقوة الله.
بعد زواج ماجد شعر زكي بأنه يحتاج لأن يسوي معاشه مبكرا فهو لم يعد يقدر على العمل، ولكن خشي إن علمت إلهام بذلك أن تغضب منه وترفض هذه الفكرة، فكم هي محبة للمال والعمل، وقرر أن يخبر ماجد بهذا القرار فهو وحده من يستطع أن يفهمه ويدعمه ومن الممكن أن يشير عليه بماذا يفعل وكيف يخبر زوجته.
جاء ماجد وقال: ماذا هناك يا أبي؟ هل هناك مشكلة؟
قال زكي: بصراحة يا ابني أريدك أن تعطيني مشورتك بأمر يحيرني، وأعتقد أنك ستفهمني.
قال ماجد: أخبرني يا أبي.
قال زكي: أريد ان أسوي معاشي فلقد أصبحت لا أقدر على العمل وأخشى من ردة فعل والدتك، هل من مقترحات تجنبني الخلافات وتجعلها تتقبل الأمر؟
قال ماجد: في الحقيقة يا أبي هذا أمر جيد، فيبدوا عليك أنك متعب كثيرا ولاسيما الفترة الأخيرة، ولكن لا أعلم كيف تتجنب خلافات أمي، ولا أستطيع أن أخبرها فيكيفي صدمتها في زواجي وأنها حتى الآن لم تتقبل الأمر بعد.
قال زكي: يبدو أني اخطاءت حينما فكرت بك...
ضحك ماجد وقال: هل أنا ساحر أم ماذا؟ ولكن تعلمت شيء من ياسمين وهذا هو الحل الوحيد.
قال زكي: وما هو؟ أخبرني هيا.
قال ماجد: إن ياسمين كلما شعرت بالقلق أو الخوف من أمر ما تظل تدعو الله طوال الوقت بأن يدبر الأمر وأن ييسر الامور من غير حول منها ولا قوة أي من غير أي شيء تفعله فقط كل شيء يفعله الله وحده لأنها لا حيلة لها في ذلك ولا سبيل.
قال زكي: ما شاء الله، لقد أصبت في اختيار زوجتك فهي حقا زوجة صالحة، ياليتني كنت أفكر مثلك ولكني كنت انبهر بالمظاهر فقط.
قال ماجد: الحمد لله يا ابي دائما أبدا.
قال زكي: يبدو أننا جميعا نحتاج إلى وجود ياسمين، فهي مليئة بالخير والرحمة وجميعنا نحتاج هذه المشاعر الصادقة، لذا فإني قررت شيء بعد تسوية معاشي وأرجو أن أفعل شيء يسعدني في أخر أيامي.
قال ماجد: العمر الطويل لك يا أبي، أنا لا أستطيع سماع هذا الكلام، ولكن ما هذا القرار يا أبي؟.
قال زكي: لا تحزن يا بني فلكل شخص منا أجل مهما حاولنا الهروب من الفكرة فهي حق، وستعلم كل شيء أنوي فعله بوقته...
شعر ماجد بوجع في قلبه من مجرد تخيل كلام والده وتسأل ما الذي ينوي فعله أبي؟
اما إلهام والدة ماجد التي لم تكن راضية تماما عن هذه الزيجة فقررت أن تذهب إلى النادي حتى لا تفكر بالأمر أكثر، وصادف أنها قابلت صديقتها والتي لم تراها منذ زمن بعيد وحينما اقتربت منها وجدت شيء صادم لم تتوقعه، وجدتها عاجزة وقد أصيبت بمرض شلل وتجلس مع شابة تبدو في أواخر العشرينات أو أوائل الثلاثينات.
-قالت لها: جليلة؟
-اجابتها: إلهام؟
- لم أراك منذ زمن، متى عدت من إيطاليا وماذا حدث لك؟ ومن هذه الفتاة؟
- سأحكي لك كل شيء ولكن هذه زوجة ابني نسمة تزوجها منذ ستة أعوام تقريبا هنا في مصر، فلقد عاد ابني إلى مصر واستقر منذ ستة أعوام وانا وزوجي عدنا منذ عامين ولكن لم أكن آتي إلى النادي لولا إلحاح نسمة لأغير جو المنزل، ثم أشارت جليلة إلى نسمة وقالت لها: اذهبي إلى مروان ورحمة لتهتمي بهم وأنا سأجلس مع صديقتي وإذا احتاجتك سأتصل بك.
فقالت نسمة: كما تشائين يا ماما جليلة، وألقت النظر على صديقتها وقالت: مرحبا بك سعدت بلقائك وأرجو ان تتحسن ماما جليلة بعد الحديث معك، ثم ذهبت.
فقالت إلهام: هل مروان ورحمة أحفادك؟
- نعم، هم أفضل شيء حدث لي في حياتي.
- كم هذا شعور جميل، لا أعلم ماذا سأشعر عندها ولكن زوجة ماهر رافضة تماما الإنجاب حاليا وتنتظر لتتمتع بحياتها، وماجد قد تزوج منذ شهر فقط.
- ما شاء الله، بارك الله لك فيهم، ولكن لماذا أشعر أنك حزينة؟
- لست راضية تماما عن زيجة ماجد ولكن قبل كل شيء أريد معرفة ماذا حدث لكِ وبعدها سأتحدث عما يضايقني.
- سأحكي لكِ ما حدث لي وستتعجبين وربما لن تظلي غير راضية عن زيجة ماجد...
وقصت جليلة ما حدث لها أنه منذ أن سافرت من عشرة أعوام إلى إيطاليا كان ابنها سليم يدير عمله وشركته بمصر وهو في إيطاليا، فالتكنولوجيا سهلت كل الأمور وأصبح معظم الأشياء إلكترونية، وكان ينزل إلى مصر في العام مرة أو مرتين ليراجع بعض الأمور التي تحتاج لوجوده وليطمئن بأن كل شيء على ما يرام ثم يعود إلينا وهكذا، وعندما نزل منذ ستة أعوام وكان بأحد البنوك لانهاء بعض الأمور الخاصة بعمله، رأى فتاة شابة تطعم أبيها وتعطيه الدواء وتهتم لأمره، كان أبيها عامل نظافة بالبنك ويبدو عليه المرض وكبر السن، فتعجب سليم لما رأه وبعد ان انهى أموره بالبنك سأل عن هذه الفتاة وأبيها، أخبره المدير أنه عم راتب عامل نظافة بالبنك ولا يتحمل التغيب عن العمل يوم واحد مهما كان مريض، يكره كثيرا الجلوس بالمنزل دون عمل، حاولت إقناعه كثيرا بأنه بحاجة إلى الراحة ولكنه أخبرني أنه إن رقد بالبيت فسيموت وترجاني أن أتركه يعمل، فظلت تأتي ابنته نسمة يوميا وتحضر له الطعام الذي يعينه على تحمل الادوية وتعطيه الأدوية وبعض الأحيان تساعده بالعمل، وحينما سمع ابني هذا قال ما هذه العائلة الجميلة وهذا البر بالوالدين الذي لم أراه في حياتي، وقرر أن يتقدم إليها على الفور دون حتى أن يتعرف عليها، وطلب مني ومن والده أن نأتي لخطبتها، رفضنا وغضبنا عليه ولكنه أصر واستقر بمصر بعد أن تزوجها، وأنجب منها مروان ورحمة وحاول أن يطلب مننا أن نأتي مصر لنرى احفادنا ولكني لم أهتم بل كنت أكره وجود هذين الطفلين لانهم من تلك الفتاة الفقيرة، وبعد أربع أعوام من زواجه أصابني حادث في إيطاليا وأصابني بالشلل كما ترين، فأصر سليم لأن نعود مصر وأنهى زوجي كل عمله بإيطاليا وعدنا مصر وكانت نسمة حنونة وعطوفة ورحيمة بي كثيرا تحملت غضبي وكلامي القاسي وظلت تهتم بي وتراعيني حتى أني بكيت من حنانها علي، مهما أخبرتك أنها أحن علي من ابني سليم حتى لن تصدقينني، كان ابني لا يتحمل طلباتي وعجزي ولكن نسمة لم تمل من طلباتي أبدا وكانت تجعل مروان ورحمة يحبونني ويستمعوا إلى قصصي وكلامي الذي لا يتحمل أحد سماعه، لا تتخيلي كم السعادة إذا حضنوني وألحوا في أن أقص لهم قصة يظلون يسألون ويريدوا ان يفهموا كل شيء، أشعر بقيمتي رغم أني عاجزة، وما أجمل شعوري حينما يقوم مروان بتسريح شعري ويحاول أن يتعلم من أمه كيف يضفر شعري، هذا هو النعيم حقا.
تأثرت إلهام كثيرا مما سمعت حتى انها لم تستطع إخفاء دموعها وقالت هل عانيتي كل هذا؟
قالت جليلة: بل أنني أشعر بنعيم وسعادة الآن ولو أنني عانيت حقا فمعانتي قبل تلك الحادث، فما عشته بعيدة عن أحفادي ونسمة هذه هي المعاناة.
لم تنطق إلهام كلمة وأعادت ترتيب افكارها وكأنها لم تكن تفهم الحياة برغم كل هذا العمر!
خطر ببال سها فكرة للتفريق بين ماجد وياسمين وتسألت كيف أنها لم يخطر ببالها هذا الأمر من قبل، ولكن تحتاج إلى بعض الوقت والتفكير لإيجاد الوسيلة والوقت المناسب لتنفيذ الأمر حتى لا تخفق هذه المرة....
You must be logged in to post a comment.